من المؤكد أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي كلف وزير الثقافة محمد مرتضى مهمة التواصل بين وزير الدفاع العميد موريس سليم وقائد الجيش العماد جوزاف عون، سينجح في رأب الصدع بينهما، وحل إشكالية الكلية الحربية، من دون أن يعني ذلك أن المياه بين الرجلين قد عادت إلى مجاريها الطبيعية، خصوصًا أن العلاقة المتوترة بينهما بسبب التباين في وجهات النظر كبيرة بالنسبة إلى الصلاحيات المتداخلة بين وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وهي ليست وليدة الأمس، وليست أيضًا بسبب انعدام “الكيمياء” بينهما، لأن الأمر ليس شخصيًا كما كانت عليه الحال بين معظم وزراء الدفاع وقادة الجيش منذ الاستقلال حتى اليوم.
فالصيغة التي تمّ التوافق عليها سبق أن اقترحها الوزير سليم وتقوم على إجراء دورة ثانية في الكلية الحربية. وكذلك تم التوافق على أن يُطلب من مجلس الوزراء إجراء مباراة إضافية لتعيين 82 تلميذ ضابط اضافيًا، على أن يجري لاحقاً إلحاقهم في آن واحد في الكلية الحربية في أواخر تشرين الأول، بحسب آخر المعلومات المتداولة.
فجوهر الخلاف القديم – الجديد بين الوزير العميد والقائد العماد ليست “قلوب مليانة”، وإن كان فيها بعضٌ من حقيقة مخفية، بل هي قصة “رمانة الصلاحيات”، إذ أنه منذ الاستقلال شهدت العلاقة بين وزراء الدفاع وقادة الجيش العديد من الخلافات التي أثرت بشكل كبير على السياسة الداخلية والأمن الوطني. هذه الخلافات لم تكن مجرد تباين في وجهات النظر، بل انعكاس للصراعات السياسية والطائفية والضغوط الإقليمية والدولية التي عاشها لبنان، إذ لم تكن تخلو العلاقة بين السلطتين المدنية والعسكرية من التوترات الموسمية.
ففي الخمسينيات شهد لبنان توترات بين الرئيس كميل شمعون وقائد الجيش حينها اللواء فؤاد شهاب. فكان الأول يسعى إلى تعزيز سلطته السياسية وتوسيع نطاق نفوذه، بينما كان شهاب يرى ضرورة الحفاظ على استقلالية الجيش والابتعاد عن التسييس. هذا التوتر بلغ ذروته في أزمة 1958، حيث تدخل الجيش في النزاع الداخلي لإنهاء الفوضى، وتم بعد ذلك انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
أما الخلاف بين العماد ميشال عون، عندما كان قائدًا للجيش ووزير الدفاع آنذاك فقد عكس مدى تعقيد الأزمة اللبنانية في تلك الفترة، حيث تداخلت الطموحات الشخصية مع الصراعات الطائفية والسياسية والتدخلات الخارجية. لكن هذه الخلافات لم تقتصر على العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية، بل امتدت لتشمل مختلف جوانب الحياة السياسية والعسكرية في البلاد، كجزء من مشهد سياسي معقد ومتداخل، يعكس التحديات الكبيرة التي واجهها لبنان في تلك الفترة، والتي لا تزال آثارها ظاهرة حتى اليوم.
فبعد اتفاق الطائف وإنهاء الحرب الأهلية، شهد لبنان محاولات لإعادة بناء الجيش وتوحيده. لكن ذلك لم يحل دون تفاقم الصراع بين وزير الدفاع ميشال المر وقائد الجيش إميل لحود، حول الأولويات في تحديد آليات تقوية الجيش وتعزيز دوره في مواجهة ميليشيات الأمر الواقع قبل تسليمها سلاحها وانخراط قسم من عناصرها في المؤسسة العسكرية.
وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وخروج القوات السورية من لبنان، ظهرت توترات جديدة بين القيادتين السياسية والعسكرية، حيث ظهر خلاف قوي بين وزير الدفاع الياس المر وقائد الجيش العماد ميشال سليمان بالنسبة إلى دور الجيش في الحفاظ على الأمن الداخلي والسيطرة على الأوضاع الأمنية في ظل تصاعد التوترات السياسية والطائفية.
ومن بين الأمثلة الكثيرة عن التوترات الموسمية بين السلطتين السياسية والعسكرية الخلاف بين وزير الدفاع سمير مقبل وقائد الجيش العماد جان قهوجي بالنسبة إلى بعض التعيينات في المناصب العسكرية العليا والتعامل مع الأوضاع الأمنية الداخلية.
هذا غيض من فيض طالما أن بعض السياسيين يحاولون بشتى الطرق وضع أيديهم على مفاصل المؤسسة العسكرية لأسباب لم تعد خافية على أحد، والتي لها علاقة بالمصلحة الشخصية وبالطموحات السياسية، خصوصًا أنه من بين ثلاثة عشر رئيسًا لجمهورية لبنان جلس على الكرسي الرئاسي أربعة قادة للجيش هم: فؤاد شهاب وأميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، مع تردّد اسم العماد جوزاف عون كمرشح محتمل للرئاسة المقبلة.
فإشكالية الكلية الحربية ستطوى حتمًا، ولكن من يضمن عدم ظهور إشكاليات أخرى في المستقبل ما دامت “القلوب مليانة”؟
المصدر: “لبنان 24”