بعد أيام تطوي الحرب على غزة شهرها الرابع من دون أن يلوح في الأفق ما يؤشّر إلى إمكانية توقفّها بعدما تحّول القطاع إلى أرض محروقة وغير مؤهّلة لأن يعيش الانسان فيها بعد الآن. هذا ما أرادته إسرائيل منذ بداية حرب أعطيت أوصافًا كثيرة، ولكن الهدف الأساسي لتل أبيب كان تهجير فلسطينيي القطاع إلى صحراء سيناء. وهذا ما هو حاصل الآن بالتوازي مع السياسات الدولية المتّبعة وفق برمجة ممنهجة، إمّا تواطؤًا وإمّا تطنيشًا وإما تسهيلًا وإمّا تطفيشًا وإمّا من خلال “قبة الباط” لغايات لم تعد مخفية، وذلك استنادًا إلى وقائع ملموسة تمارسها طهران من باب المندب (الحركة الحوثية) حتى غزة (“حماس”)، مرورًا بالعراق (“الحشد الشعبي”) وسوريا (النظام) ولبنان (“حزب الله”) بما يشكّل إلى حدود معينة “هلالًا شيعيًا” قد يكون غير متواصل الحلقات حتى إشعار آخر. وهذا ما يعيدنا بالذاكرة إلى ما قاله وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد الشيخ حيدر مصلحي من إن “إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية”، فيما أكد قائد قوات الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي، أن “المسؤولين في إيران لم يتوقعوا الانتشار السريع للثورة الإسلامية خارج الحدود لتمتد من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين والبحرين واليمن وأفغانستان”. وكان سبقهما إلى تكريس هذه المعادلة علي رضا زاكاني عضو البرلمان الإيراني، وهو أول من استخدم هذا التعبير عام 2014.
فالذي يراقب الحركة الإيرانية في المنطقة على وقع ما يتعرّض له قطاع غزة من حرب مدّمرة لم يشهد التاريخ الحديث مثيلًا لها، لا بدّ له من أن يلاحظ أن طهران لا تزال تتصرّف وكأنها لا تريد أن تحرق أصابيعها بالنيران التي تلهب غزة، وهي تكتفي بتحريك الجبهات الموازية من مياه البحر الأحمر إلى مياه البحر الأبيض المتوسط من خلال ما يستهوي أعداءها بتسميتهم بـ “الأدوات” أو “الأذرع” الإيرانية في المنطقة، وقد يأتي “حزب الله” في طليعة من يراه بأنه الفصيل اللصيق بـ “الثورة الإسلامية الإيرانية” كونه على تماس مباشر على الحدود التي تفصل لبنان عن الأراضي الفلسطينية المحتلة من قِبل العدو الإسرائيلي، وهو الذي فتح جبهة الجنوب في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى”، ولا يزال يربط ما يجري في الجنوب ومن الجنوب وعليه بما يجري في غزة، مع ما يعنيه هذا الإصرار على مواصلة العمليات ضد مواقع العدو الحدودية من احتمال جرّ لبنان كله إلى حرب شاملة قد يدفع فيها جميع اللبنانيين، من غير أن يكون لهم رأي في هذه الحرب، أثمانًا باهظة قد تفوق الأضرار التي ستلحق بالإسرائيليين حتمًا.
فبعد هذه الحرب المدمرة في غزة وما ينتج عنها من خسائر بالأرواح والممتلكات والأرزاق يتوقف المراقبون عند مفارقها الخطيرة، والتي يمكن أن تؤدي إلى ما يخشاه كثيرون مع ربطها إيرانيًا بالبحرين الأحمر والأبيض، وهي قد بدأت تتحول إلى صراع في لبنان وسوريا والعراق واليمن، حيث تتزايد بشكل مضطرد المخاوف من اندلاع حريق إقليمي أكبر.
فإيران التي لا تريد أن تحرق أصابيعها بنيران غزة تبدو حاضرة في كل هذه الساحات، من خلال “أدواتها”، التي تمسك بمفاصل الواقعين السياسي والميداني حيث هي، سواء في لبنان أو في غزة أو في سوريا وفي العراق واليمن. إلاّ أن تحريك الجبهات الموازية لا يعني بالضرورة أن إيران تريد الانخراط في حرب شاملة، وهي تحاذر القيام بأي عمل عسكري مباشر ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية. ويبدو أنها راضية مرحليًا عن سياسة تعتمد على “النفس الطويل” من خلال مشاركتها بحرب الوكالات، ما يسمح لها بفرض معادلات إقليمية من دون أن تضطر لاستخدام قوتها العسكرية أو تعريض أمنها الداخلي لأي انتكاسة.
وفي الوقت الذي يقوم فيه وكلاء إيران بإشعال الجبهة الشمالية لإسرائيل من خلال ضربات صاروخية متفرقة لـ “حزب الله”، والتحريض على شن هجمات على القواعد الأميركية في العراق وإعاقة الشحن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن، تستمر طهران في مفاوضاتها النووية مع واشنطن لضمان حجز موقع متقدّم لها في المنطقة، ويكون لها الحضور الفاعل في أي معادلة دولية وإقليمية جديدة، أي بمعنىً آخر تحاول أن تستثمر في السياسة ما راكمته من صواريخ في ترسانات “حزب الله”..